قضية التسامح

وكونوا… مُتسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح (أف 4: 32)

احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمِّموا ناموس المسيح (غل 6: 2)

يمثِّل مبدأ التسامح موقفاً مركزياً في التعليم المسيحي. ومع هذا فهو موضع عدم الرضا من كثير من المنتسبين للمسيح الذين يرون في التسامح المسيحي نقطة ضعف، بل يرى فيه البعض تعبيراً عن الجُبن والتخاذُل فضلاً عن أنه يُشجِّع الآخر على تجاوز المسيحي وهضم حقوقه بل واضطهاده.
ولا شكَّ أن ما جاء به المسيح في تعليمه عن التسامح بدءاً مما جاء في موعظته على الجبل: «مَن لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً… مَن سخَّرك ميلاً واحداً، فاذهب معه اثنين» (مت 5: 38-41)، كان جديداً وصادماً، ليس فقط على أول مَن سمعه من اليهود في ذلك الزمان، ولكنه لا يزال عسير التنفيذ في نظر الكثيرين.

ونحن هنا نتناول هذه القضية مُصلِّين بكل طلبة أن يكشف لنا المعلِّم الحقَّ المذخَّر في وصيته.
? معنى الكلمة:
الفعل يُسامح مشتقٌّ من يسمح، أي يوافق ولا يُمانع لشخص بالتصرُّف، أو لأمر ما أن يتمَّ، أو يتيح الكلام أو الرد. فالرب إزاء توقُّف المعمدان عن تعميده باعتبار أنه هو المحتاج، طلب إليه أن «اسمح الآن… حينئذ سمح له» (مت 3: 15).

والسماح قد يعني الإسقاط من الحساب كما في الآيات «غير حاسبٍ لهم خطاياهم» (2كو 5: 19)، «طوبى لمَن لا يحسب لهم الرب خطية» (مز 32: 2، رو 4: 8)، أو قد يعني إسقاط الديْن كما ذكر الرب في مَثَل الدائن والمديونَيْن «فسامحهما كليهما» (لو 7: 42)، وكما كتب القديس بولس لفليمون بخصوص العبد أُنسيمس: «فإذا كان لك عليه دين، فاحسب ذلك عليَّ» (فليمون 18).

ففي التسامح عفوٌ وتغاضٍ وتنازلٌ عن حقي في اعتذار الآخر أو في الأشياء أو في التعويض أو في الديْن.
بين التسامح والغفران:
في الترجمة الإنجليزية للكتاب المقدس، لا تختلف هاتان الكلمتان ”التسامح“ و”الغفران“ ويُقابلهما

forgiveness

ومشتقاتها، وتأتي في الآيات التي تَرِد فيها ”سامح“ ومشتقاتها (لو 7: 43،42؛ 2كو 2: 10،7؛ أف 4: 32؛ كو 2: 13؛ 3: 13).
إلاَّ أنه في الترجمة العربية تتمايز الكلمتان، رغم العلاقة الوثيقة بين التسامح والغفران(1)، فكلٌّ منهما يؤدِّي إلى الآخر، ينبع منه ويقود إليه. فالمتسامح دوماً قادر على الغفران، ومَن استطاع أن يغفر يقدر أن يُسامح.
ولكن ربما كان الغفران مُقترناً بخطأ واضح موجَّه ضدي عمداً وقصداً (اعتداء، إهانة، إيلام، شتم، تَقَوُّل بالباطل… إلخ)، وفي أكثر الأحيان مِمَّن أعرف (قريب، صديق، زميل، جار): «إن أخطأ إليك أخوك فوبِّخه، وإن تاب فاغفر له» (لو 17: 3). فالغفران هو بين المؤمن وإخوته، وهو يتطلَّب من المخطئ أن يتأسف ويعتذر ويتوب، ومن الطرف الآخر أن يغفر وينسى.
ولكن التسامح أشمل نطاقاً من ناحية الفعل ومن ناحية الآخرفالفعل قد لا يكون خطأً صريحاً: مجرد شكوى (كو 3: 13) أو تجاوز أو إهمال أو تقصير، أو سلوك غير ودِّي، أو غضب غير مُبرَّر، أو أمر أو رأي موضع خلاف، أو نزاع على شيء، أو ربما أذىً أو اعتداء ولكنه عن غير قصد.
والآخر قد يكون عابر سبيل أو شخصاً لم يُصادفني من قبل (ولكن بالطبع قد يكون مِمَّن أعرف). وكما تُعبِّر الآيات التي ساقها الرب: «مَن لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً. ومَن أراد أن يُخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً. ومن سخَّرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين… أحبُّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مُبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم» (مت 5: 39-44،41).
فالآخر هنا معتدٍ يضطهد: يلطم ويُخاصم ويُسخِّر ويُعيِّر ويُعادي ويلعن ويُبغض ويُسيء ويطرد، وهو طرف ربما لا تربطك به أية صلة، يقطع عليك الطريق أو يقتحم حياتك؛ ولكنه ربما يكون أيضاً أقرب الناس إليك: رفيق حياتك أو صديقك الغضوب، وربما يكون رئيسك الظالم المريض الذي يضطهدك ويسلبك حقك.
? التسامح فضيلة غنية:
تستمد فضيلة التسامح جذورها من المحبة، الفضيلة العظمى، وتوابعها: التأنِّي والرفق والاحتمال (1كو 13: 7،4) والرحمة واللطف والوداعة وطول الأناة والصبر واتساع القلب والاتضاع وعدم الإدانة. ومن هنا فهي فضيلة غنية متسعة الأرجاء تنعكس في العديد من جوانب السلوك المسيحي اليومي التي نشير هنا إلى بعضها.
1 – في التسامح نحن نقبل الآخر. وهذا لا يعني مجرد الإقرار بوجوده دون أن يكون لنا به علاقة (أو ربما مع تمنِّي غيابه في العقل الباطن)، وإنما التعامُل معه إيجابياً ككائن مساوٍ وربما أفضل، فنحن كلنا خليقة الله الواحد، وخلاصنا صنعه الرب بدمه وليس لنا فضل فيه غير قبولنا هذه النعمة. فالتسامح ضد التعصُّب والانحياز والانكفاء على الذات. وبعض الناس تفادياً للمشاكل يُقاطع الآخر تماماً (ويسمون ذلك اقتصاراً) كأن الآخر غير موجود. هذه كراهية لا تَخفَى وإنكار للمسيحية.
وعندما قال المسيح في نهاية حديثه عن العلاقة مع الأخ المُخطئ: «فليكن عندك كالوثني والعشار» (مت 18: 17)، فإن هذا يكون موقفك مِمَّن يتمسك بمقاطعتك: فأنت تُعاتبه بينك وبينه وحدكما وهو لا يسمع، وهو لا يسمع من الوسطاء، وحتى الكنيسة لا يسمع لها. ومع هذا فقضيتك معه لم تنتهِ، إذ أنت تنتظر اللحظة التي يُريد فيها أن يفتح الباب الذي أوصده، وعندها ستكون مستعدّاً للتعامُل معه (ولو على حذر إذا كان في ماضي العلاقات ما يُبرر هذا التوجُّه. فالله أوصانا أن نكون ”حكماء كالحيَّات وبسطاء كالحمام“ خاصة لو كنا وسط ذئاب – مت 10: 16).
وبالطبع، فإن العلاقات تتفاوت في شدَّتها. فكلما اتفقت الميول والأهداف تصير العلاقة أوثق، والمحبة المتبادلة تعمِّق الشركة. الحب والاهتمام من جانب واحد يجعل العلاقة أقل وثوقاً وأكثر فتوراً، ولكن الإهمال والمقاطعة ليست واردة مسيحياً في ظل وصية تقول: «أحبوا أعداءكم» (مت 5: 44)، و«إن جاع عدوك فأطعِمْهُ، وإن عَطِشَ فاسْقِهِ» (رو 12: 20).
2 – التسامح يَحُول دون دخول الضغائن والميل إلى الانتقام إلى القلب «لا تجازوا أحداً عن شرٍّ بشر» (رو 12: 17؛ 1بط 3: 9). ويتضمن القدرة على نسيان الإساءة، وتأجيل المواجهة بشأنها إلى ظروف مواتية أكثر، أو حتى إسقاطها تماماً إذا كان العتاب سيُؤجِّج الإساءة ويُذكِّر بها. فالتسامح ضرورة لنمو العلاقات خاصة بين الزوجين والأهل والأصدقاء، بينما ترصُّد الآخر دائماً للرد على ما ضايقنا منه يُدمِّر العلاقات ويوغر الصدور ويُطفئ المحبة. التسامح هو بلسم للجراح وبه نتفادى النزاعات والقضايا والضحايا الكثيرين.
ولا مكان مع التسامح للشماتة عند سقوط مَن عاداك والتشفِّي فيه. بل على العكس، هي فرصة لردِّ الإساءة بالإحسان والمساندة ساعة ضعفه، وبهذا تُخرجه من أَسْر العداء والبغضة: «فإنك بهذا تجمع جمر نار على رأسه» (رو 12: 20).
3 – التسامح يُزيل عوائق الجنس واللون والدين ويجعل الكل أقرباء الكل. والرب ساق لنا مَثَل السامري (لو 10: 25-37) الذي لم يتوقَّف أمام أي اختلاف بينه وبين الجريح الذي كان يُصارع الموت، ولكنه – في تحنُّنه على مَن لا يعرف – أتى به إلى فندق واعتنى به، وأوصى صاحب الفندق أن يُواصِل العناية به مُلتزماً بنفقاته. فالرب بالتسامح وسَّع دائرة الاهتمام من القرابة العائلية إلى القرابة الإنسانية، حيث البشر جميعاً إخوة وكل منهم مسئول عن أخيه.
4 – في التسامح يسهل أن تقترب من الناس وتُجاملهم وتربحهم. وتمثَّل بالقديس بولس الذي تعامل مع الكل مقترباً إلى المشترك في عقيدتهم: اليهودي (الآباء، الوصايا العشر، الأنبياء كباراً وصغاراً الذين بشَّروا بالخلاص)؛ واليوناني (الإله المجهول – أع 17: 23)؛ والذين بلا ناموس (الضمير الأدبي والأخلاقي)، دون أن يتنازل عن إيمانه والهدف أن يربحهم للمسيح.
5 – التسامح يفرز بطء الغضب وضبط الانفعال. وحتى الشخصيات سريعة الغضب تتهذَّب بالنعمة التي تُبقي على حماسها لكن تُجرِّدها من الانفعال المنفلت، فتتحول إلى شخصيات متسامحة تُمارس ”العفو عند المقدرة“ وتكتسب روح الوداعة التي تحتمل تقصيرات الآخرين وتجاوزاتهم الكبيرة والصغيرة (عدم تنفيذ الوعد – عدم الالتزام بالموعد – عدم رد الجميل أو رده بالإساءة – الفشل في تتميم الواجب – عدم إتقان المطلوب وغيره)، وترحم المُخطئ وتلتمس له العذر وتُشاركه أثقاله، فلا أحد معصوم من الخطأ «لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا» (يع 3: 2)، «إذاً مَن يظن أنه قائم، فلينظر أن لا يسقط» (1كو 10: 12).
وكما يوصينا معلِّمنا بولس الرسول: «أيها الإخوة، إن انسبق إنسان فأُخِذ في زلَّةٍ ما، فأصلِحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة، ناظراً إلى نفسك لئلا تُجرَّب أنت أيضاً. احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمِّموا ناموس المسيح» (غل 6: 2،1).
وخاصة مع المبتدئين وصغار النفوس، فالتسامح يُشجِّع البوادر الطيبة فيهم: «قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مُدخِّنة (خامدة) لا يُطفئ» (إش 42: 3؛ مت 12: 20)، «شجِّعوا صغار النفوس. أسندوا الضعفاء» (1تس 5: 14)، ويتفادى قسوة المؤاخذة واللوم على كل هفوة لأن هذا يُعثرهم ويُحبطهم ويُعطِّل تحررهم من ضعفهم.
وعند النقد وتصويب الأخطاء، فإن اللطف والحكمة والموضوعية، دون تشهير أو تبكيت أو تصيُّد، يُتيح للمخطئ أن يتعلَّم الصواب ويُتقنه وإلاَّ ضاق بالتوجيه واستمر في خطئه. والكتاب المقدس يوصي الآباء: «لا تغيظوا أولادكم لئلا يفشلوا» (كو 3: 21).
6 – التسامح هو قاعدة بناء التعامُل الإنساني في المجتمعات المتقدمة: في البيت والمدرسة والنادي والطريق وأماكن العمل ووسائل الانتقال وغيرها. وهو وراء ما نسميه ”الذوق“ والأدب وتفادي المشاكل العابرة اليومية ووأدها سريعاً. وفي هذا المجال نلتقي مع وصايا الكتاب: «مُقدِّمين بعضكم بعضاً في الكرامة» (رو 12: 10)، «فكل ما (وكما) تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء» (مت 7: 12؛ لو 6: 31).
ولسهولة التعامل بين أفراد البيت الواحد، كباراً وصغاراً، ونجاح زمالة المدرسة والعمل، ومرونة التعامل بين الناس في الأماكن العامة، وتفادي مشاحنات قادة السيارات في الطرق المزدحمة، وانتظام الجمهور في صفوف كلٌّ في دوره دون تخطٍّ أو تجاوز أو تزاحم؛ كل هذا يتطلَّب إعمال التسامح (ولو من طرف واحد)، وإلاَّ صارت الحياة عبئاً والعالم ساحة لحرب غير مُعلنة، والضحية هي سلام القلب، والنتيجة تراجُع المودة وانتشار العداء وتربُّص كل واحد للآخر.
7 – التسامح هو أحد أعمدة خدمة المسيحي. فهو كمسيحي مُسخَّر لخدمة المحتاج حتى لو لم يطلب. وهو إذا طَلَبَ أن يسير معه ميلاً واحداً فعليه أن يسير معه ميلين، أي أن يُقدِّم بسخاء كسيده دون تحفُّظ، ويُعطي أضعاف ما يأخذ. المحبة المتبادَلة والخدمات المتبادَلة لا يعتبرها الرب أمراً يستحق المكافأة: «لأنه إن أحببتم الذين يُحبونكم، فأيُّ أجر لكم؟… وإن سلَّمتم على إخوتكم فقط، فأيُّ فضل تصنعون؟ أليس العشارون يفعلون هكذا؟» (مت 5: 47،46)، «وإذا أحسنتم إلى الذين يُحسنون إليكم، فأيُّ فضل لكم؟ فإن الخطاة أيضاً يفعلون هكذا. وإن أقرضتم الذين ترجُون أن تستردُّوا منهم، فأيُّ فضل لكم؟ فإن الخطاة أيضاً يُقرضون الخطاة لكي يستردوا منهم المِثْل. بل أحبُّوا أعداءكم، وأحسنوا وأقرضوا وأنتم لا ترجُون شيئاً، فيكون أجركم عظيماً وتكونوا بني العَليِّ» (لو 6: 33-35).
8 – في التسامح إنقاذ للنفس التي أخطأت، والتي يمكن أن تعود إلى جادة الصواب لو نالت فرصة ثانية. والقسوة عليها وإغلاق باب العودة أمامها يقودها للهلاك رغماً عنها.
والرب أتاح الفرصة الثانية للخطاة كي يتوبوا، فشجَّع الكثيرين الذين لم يجدوا من قبل حولهم سوى الإعراض والإهمال والترفُّع، بل والقسوة وطلب القصاص. وهذا ما رأيناه عند لقاء الرب بالمرأة التي أُمسِكَت في زنا، وبينما كل مَن حولها يطلبون قتلها – حسب الناموس – فإن الرب وحده هو الذي أنقذها من مصيرها ورأى حاجتها إلى فرصة ثانية كي تنتقل من الموت إلى الحياة، فكان قوله لها بعد أن كشف خطايا الجميع الخافية: «… ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تُخطئي أيضاً» (يو 8: 11).
وهذا ما كان يفعله الرب في كل مرة يتواجه مع الخطاة: المرأة الخاطئة في بيت الفرِّيسي، والسامرية، وزكَّا رئيس العشَّارين، ومريض بركة بيت حسدا، وغيرهم، الذين تغيَّرت حياتهم عندما أعطاهم الرب فرصة جديدة للخلاص.
وفي الغرب فإن تعبير الفرصة الثانية يشير إلى اتجاه في الحياة بإتاحة الفرصة لمَن أخطأ أو تعثَّر أو فشل لكي يبدأ من جديد، وهكذا قد يتغيَّر مسار حياته.
وهذا هو توجُّه الله معنا كل يوم، فهو يقبل توبتنا بعد كل خطأ ويمنحنا فرصة ثانية، حتى قيل عن الله إنه إله الفرص الثانية

God is a God of second chances

، وهذا ما أتاحه الله لشمشون وداود ويونان وشعب نينوى وبطرس وبولس، فنهضوا من عثرتهم أقوياء وخلَّصوا كثيرين