عندما رأى الرب – وهو مجتاز – إنساناً أعمى منذ ولادته، وسأله تلاميذه عن سبب ولادته أعمى: أهي خطيته أم خطية والديه؟ أجاب الرب: إنها ليست السبب، وإنما لتظهر أعمال الله فيه، ولكي يُظهِر الرب مجده، مُقدِّماً نفسه أنه “نور العالم”، فبَدَت المفارقة ساطعة بين الظلام الذي يسبح فيه الأعمى منذ ولادته، والنور الذي سينتقل إليه بواسطة “نور العالم”.
الله مصدر النور:
– إذا رجعنا إلى البدايات الأولى للخليقة كما جاءت في الأصحاح الأول من سفر التكوين، نعرف أن الله هو خالق النور، وهو الذي فصله عن الظلمة:
+ “وقال الله: ليكن نور فكان نور… وفصل الله بين النور والظلمة… ودعا الله النور نهاراً، والظلمة دعاها ليلاً.” (تك 1: 3و4)
– ولكن الكتاب يكشف لنا أن الله هو النور الحقيقي، وكما أنه الحياة المطلقة وأصل الحياة التي وهبها للخليقة وتـاجها الإنسان: “ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حيـة” (تـك 2: 7)، فهو أيضاً مصدر النور وواهبه، وهو منفصل عن الظلمة (التي هي في حقيقتها غياب النور):
+ “الله نور وليس فيه ظلمة البتة.” (1يو 1: 5)
+ “… ساكناً في نور لا يُدنى منه.” (1تي 6: 16)
+ “بنورك نرى نوراً.” (مز 36: 9)
+ “الرب نوري وخلاصي.” (مز 27: 1)
+ “اللابس النور كثوب.” (مز 104: 2)
وإنه هو الذي يُنير الأبدية حيث لا توجد ظلمة، كما يذكر الوحي في سفر الرؤيا عن المتمتعين بقيامة الحياة:
+ “وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم. ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأن الرب الإله يُنير عليهم.” (رؤ 22: 4و5)
عن النور والظلمة:
وفي الكتاب اتسع معنى النور والظلمة:
– فصار “النور” (والنهار) رمزاً واضحاً إلى الله وبرِّه، وإلى الحياة النشطة مع الله:
+ “جميعكم أبناء نور وأبناء نهار… أما نحن الذين من نهار فلْنَصْحُ.” (1تس 5: 5و8)
+ “فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس.” (يو 1: 4)
+ “نلبس أسلحة النور.” (رو 13: 12)
كما يرمز أيضاً إلى مجيء الرب: “تقارَب النهار.” (رو 13: 12)
– وصارت “الظلمة” (والليل) رمزاً للخطية وعالم الشر والحياة في الإثم أو الحياة الحاضرة البعيدة عن الله:
+ “والنور يُضيء في الظلمة، والظلمة لم تُدركه.” (يو 1: 5)
+ “لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحري وبِّخوها.” (أف 5: 11)
– ويرتبط بالظلمة النوم الذي يرمز إلى الغفلة أو الفتور أو النسيان، وبالمقابل فإن الاستيقاظ رمز للنهوض من حياة الخطية والعودة إلى الله:
+ “هذا وإنكم عارفون الوقت أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم. فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا. قد تناهى الليل وتقارَب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور.” (رو 13: 11و12)
كما قد يعني “الليل” الموت ونهاية الحياة: “يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل.” (يو 9: 4)
– ولم يَعُد “الأعمى” ذلك الذي لا يرى النور فحسب، وإنما هو رمز لحياة الخاطئ بعيداً عن الله تائهاً متخبِّطاً في ظلام الخطية، لاهياً عن مصيره الأبدي.
والرب أدان ملاك كنيسة اللاودكيين لفتوره واكتفائه واستعلائه وجهله بما صار إليه قائلاً له: “ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان”، وأشار عليه كي تنفتح عيناه الداخليتان أنْ: “كحِّل عينيك بكحل لكي تبصر” (رؤ 3: 17و18). فالتوبة والحياة في النور هي الكفيلة بمنح البصيرة الروحية التي تحفظ الإنسان في طريق الحياة.
المسيح النور الحقيقي:
– في قانون الإيمان نعترف أن المسيح ابن الله الوحيد هو “النور الحقيقي”، وأنه “نور من نور“، “إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حقٍّ”.
– وعندما تجسَّد الابن استتر لاهوته وراء ناسوته كي يستطيع أن يتعامل معه الإنسان. ويختلط الرب بالجموع – وهو الله – كواحد منهم جاء لخلاصهم، وبالتالي فقد أخفى نوره الطبيعي، وقدَّم وجه النور الآخر، وهو بره الكامل الذي يكتسح ظلمة الخطية والموت، ويهب مؤمنيه الخلاص والحياة في النور:
+ “شاكرين الآب الذي أهَّلنا لشركة ميراث القديسين في النور، الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته.” (كو 1: 12و13)
+ “الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب.” (1بط 2: 9)
+ “نور أشرق في الظلمة.” (مز 112: 4)
+ “نور إعلان للأمم” (لو 2: 32) (من كلمات سمعان الشيخ وهو يحمل يسوع الطفل).
+ “الشعب الجالس في ظلمة، أبصر نوراً عظيماً.” (إش 9: 2، مت 4: 16)
+ “والنور يُضيء في الظلمة، والظلمة لم تُدركه.” (يو 1: 5)
وعندما بدأ القديس يوحنا إنجيله، كتب أن المعمدان جاء “ليشهد للنور لكي يؤمن الكل بواسطته. لم يكن هو النور بل ليشهد للنور. كان النور الحقيقي الذي يُنير كل إنسان آتياً إلى العالم.” (يو 1: 7-9)
– والرب لم يُخْفِ أنه النور الحقيقي، فقال عن نفسه:
+ “أنا هو نور العالم. مَن يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة.” (يو 8: 12)
+ “ما دمتُ في العالم، فأنا نور العالم.” (يو 9: 5)
+ “أنا قد جئتُ نوراً للعالم حتى كل مَن يؤمن بي لا يمكث في الظلمة.” (يو 12: 46)
– وعن دينونة الذين يرفضونه، قال الرب:
+ “وهذه هي الدينونة: إن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة.” (يو 3: 19)
– على أن الرب كي يؤكِّد لاهوته وأنه مصدر النور، سمح في مواقف قليلة لنوره أن يتبدَّى للعالم في مجد لا يُخْفَى:
+ فساعة عماده في الأردن من يوحنا “انفتحت السماء (السموات انشقت)، ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة، وكان صوت من السماء قائلاً: أنت ابني الحبيب، بك (الذي به) سُررتُ” (مت 3: 16و17، مر 1: 10و11، لو 3: 21و22). فهنا استعلان غير مسبوق للبشرية عن طبيعة الله، وها هو الآب يُمجِّد ابنه علناً ويسمع الجميع صوته، والروح القدس يتراءى كحمامة نازلة على الابن. وفي شهادته كتب يوحنا: “ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمةً وحقاً.” (يو 1: 14)
+ وكان المشهد الثاني يوم التجلِّي حين تغيَّرت هيئة الرب قدَّام تلاميذه: “وأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور” (مت 17: 2) (“تلمع بيضاء جداً كالثلج، لا يقدر قصَّار على الأرض أن يُبيِّض مثل ذلك” – مر 9: 3)، ومرة أخرى يتردَّد صوت الآب ممجِّداً ابنه: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ. له اسمعوا.” (مت 17: 5، مر 9: 7، لو 9: 35)
+ وكان المشهد الثالث في لقائه المزلزل في طريق دمشق لشاول الطرسوسي الذي يقول فيه سفر الأعمال: “فبغتةً أبرق حوله نورٌ من السماء… وسمع صوتاً قائلاً له: شاول شاول، لماذا تضطهدني” (أع 9: 3و4). وفي قصة بولس عن هذا الحدث الذي غيَّر حياته، يقول للملك أغريباس: “رأيتُ في نصف النهار في الطريق أيها الملك نوراً من السماء أفضل من لمعان الشمس أبرق حولي وحول الذاهبين معي (أع 26: 13).
المسيحي نور العالم:
– كما ينعكس نور الشمس على كواكبها، فإن المسيحي المؤمن ينعكس عليه نور المسيح فيصير هو أيضاً نوراً للعالم، وها هو الرب يُخاطبنا قائلاً: “أنتم نور العالم… فليُضئ نوركم هكذا قدَّام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجِّدوا أباكم الذي في السموات” (مت 5: 14و16)، “ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور.” (يو 12: 36)
وتُجسِّد الأيقونات هذه الحقيقة، فترسم هالات النور حول رؤوس القديسين. كما أن الرب وصف يوحنا المعمدان بأنه: “كان هو السراج الموقد المنير، وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة” (يو 5: 35)، وفي شرحه لمَثَل زوان الحقل، أعلن الرب عن تمجيد قديسيه في اليوم الأخير قائلاً: “حينئذ يُضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم” (مت 13: 43). والقديس يوحنا في رسالته الأولى، مؤكِّداً هذه الحقيقة، يكتب بالروح عمَّا سيصير إليه المؤمنون: “نعلم أنه إذا أُظهِر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو” (1يو 3: 2). وفي أعماق الزمن يذكر العهد القديم عن موسى لما نزل من سيناء بعد لقائه بالرب ومعه لوحا الشريعة، أن جلد وجهه صار يلمع حتى أنه جعل على وجهه برقعاً (خر 34: 29-35).
– ومعمودية العهد الجديد هي سرُّ إنارة المؤمن، ومن هنا فهي تُسمَّى سرَّ الاستنارة التي ينعم بها الروح على الإنسان الذي يصير هيكلاً له (1كو 3: 16؛ 6: 19).
– وتصير التوبة تجديداً لفعل المعمودية واهبة النور بالروح. فهي انتقال وعودة من جديد من الظلمة إلى النور:
+ “كنتم قبلاً ظلمة، أما الآن فنور في الرب.” (أف 5: 8)
+ “لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيباً مع المقدَّسين.” (أع 26: 18)
– كما أن كلمة الله هي واسطة لا يُستغنى عنها للحياة في النور:
+ “سراجٌ لرجلي كلامك، ونورٌ لسبيلي.” (مز 119: 105)
+ “الوصية مصباح والشريعة نور” (أم 6: 23)
+ “وصية الرب مُضيئة تنير العينين عن بُعْد.” (مز 19: 8 – الترجمة السبعينية)
ولعلاقة الكلمة بالنور يقف الشمامسة عند قراءة الإنجيل حوله حاملين الشموع إشارة إلى نور كلمة الله.
– وفي شركة الصلاة نحن نلتقي مع مصدر النور، وبقدر صدق الصلاة وعمقها وحبها وانسحاقها، بقدر النور الذي يغمر الحياة ويُطهِّر القلب من أركانه المظلمة.
– ولأن شركة الجسد والدم هي اتحاد بالمخلِّص وثبوت فيه، فهي للنفس المؤمنة التائبة التحام حقيقي برئيس الحياة يهب غفراناً للخطايا، أي إزالة بقع الظلام من ثوب النور، واتصالاً حاضراً بالنور الأبدي.
– ويبقى أن الكنيسة هي أيضاً نبع للنور، فهي بيت الصلاة والأسرار والتعليم والتعزية، وسُمِّي برجها بالمنارة، فهي للمؤمنين كالفنار للسفن وسط أمواج البحر.
النور أو الظلمة:
– التزام المسيحي أن يكون نوراً للعالم، ينثر حوله السلام والفرح، ويدين بسلوكه النقي أعمال الظلمة والانحراف من حوله، ويُبشـِّر الهائمين في ظلمة الخطية بالنور الحقيقي؛ يقتضي أن يعيش حياته كلها في النور وحتى الساعة الأخيرة.
– وطبيعة النور أنه لا يجتمع مع الظلمة، فتُستبعد أية شركة بينهما. فالحياة المسيحية – كالله – هي نور وليس فيها ظلمة البتة (1يو 1: 5). والمتدينون الشكليون الذين يُمارسون حياة مزدوجة هم في الحقيقة يُنكرون الإيمان، ولن يتمتعوا بشركة الحياة الأبدية إلاَّ إذا توقفوا عن ريائهم وتجدَّدت قلوبهم بتوبة حقيقية شاملة تصحح مسار الحياة:
+ “لا يقدر أحد أن يخدم سيدين.” (مت 6: 24)
+ “لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال، وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن، وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان.” (2كو 6: 14-16)
– والحياة في النور تتضمن طهارة الحواس، فهي الأبواب والنوافذ التي إذا ضُبطت حراستها لن تجد الظلمة لها سبيلاً إلى القلب:
+ “سراج الجسد هو العين. فمتى كانت عينك بسيطة، فجسدك كله يكون نيِّراً. ومتى كانت شريرة فجسدك (كله) يكون مظلماً. انظر لئلا يكون النور الذي فيك ظلمة.” (مت 6: 22و23، لو 11: 34و35)
– والحياة في النور تستدعي السهر والانتباه والتدقيق والاستعداد الدائم للقاء الرب:
+ “وأما أنتم أيها الإخوة فلستم في ظلمة حتى يُدرككم ذلك اليوم كلص. جميعكم أبناء نور وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا ظلمة. فلا نَنَمْ إذاً كالباقين، بل لنسهر ونَصْحُ… وأما نحن الذين من نهار فلْنَصْحُ لابسين درع الإيمان والمحبة وخوذة هي رجاء الخلاص.” (1تس 5: 4-6و8)
وعلى العكس، فأبناء الظلمة يتستَّرون بالظلام، ولا يعرفون السهر والاستعداد؛ بل هم نائمون خاملون، أو هاربون من واقعهم إلى الخمور والمخدرات، أو غارقون في الشهوات. وهم يضيقون بأبناء النور، لأن نورهم يُبكِّتهم، فهم دوماً موضع سخطهم وانتقادهم بل واضطهادهم.
+ + +
كانت البداية أن الرب وهب البصر للأعمى وأعطاه أن ينظر النور الذي في العالم، وكانت الخطوة التالية أن يدعوه إلى “النور الحقيقي” الذي ينقل من ظلمة الخطية إلى الحياة الجديدة. فلما آمن وسجد له، انفتحت عيناه الداخليتان على النور الأبدي، وصار هو بالتالي نوراً للسائرين في الظلمة وظلال الموت.
ودعوة الرب لنا للخروج من الظلمة إلى نوره العجيب، لم تكن مجرد كلمات، لكنها كلَّفته دمه وحياته كلها التي بدأها على صليب الجلجثة، فعبرنا بموته وقيامته من موت الخطية إلى الحياة الجديدة وملكوته الأبدي.
هناك سبيل وحيد للحياة في النور، دون أن يُدركنا الظلام، هو أن نلتصق بالنور الحقيقي، و”مَن له الابن فله الحياة.” (1يو 5: 12)